الكسوف في الحضارات القديمة
لقد كان البشر مفتونين وخائفين من الكسوف الذي يبدو أنه يضر بالمصدرين السماويين الرئيسيين اللذين يعتبران أساسيين في حياتهم، الشمس والقمر. لقد تفاعلت كل ثقافة بشكل مختلف مع حدوث الكسوف. تحتوي معظم الثقافات على قصص تفصيلية حول أسباب حدوث الخسوف وحتى انهم اوجدوا طرق غريبة لمحاولة مساعدة الشمس والقمر أثناء الكسوف. توفر لنا مقارنة هذه الأساطير رؤى قيمة حول تفكير الحضارات المختلفة قديماً.
يعتبر الكسوف و الخسوف القديم موردا قيماً جداً للمؤرخين. يسمح لنا بتأريخ الأحداث التاريخية بدقة ومعايرة التقاويم القديمة بهذه الطريقة. قدمت لنا نظرة عن كيفية تعقيد نظام الأرض والقمر على مدى مئات السنين. أثبتت كسوف الشمس الأخيرة أيضًا أنها أداة قيمة لفهم التفاعل بين هالة الشمسوالوسط بين الكواكب. في الآونة الأخيرة، تم استخدام الكسوف لتأكيد النظرية النسبية.
الثقافات المختلفة استجابت للكسوف بطرق مختلفة. يعتقد في الأساطير المصرية القديمة أن الثعبان “أبوفيس” الذي يعتبر رمز للشر وعدو الإله رع “إله الشمس” بأنه عندما يهاجم قارب الإله رع يؤدي الى كسوف الشمس. اعتبره البابليون واليونانيون والرومان نذير شؤم واعتبر الشهر الذي يتم فيه تسجيل الكسوف تاريخ مهم جداً. يعتقد شعب باتاماليبا* في توغو وبنين**، أن الشمس والقمر يتقاتلان أثناء الكسوف. الناس يشجعون الشمس والقمر على الكف عن القتال. اعتقد الأرمن*** أن كوكبًا أسود غزا الشمس عند الكسوف. اعتقد سكان غرب إفريقيا أن ظل الشمس سقط على القمر عند خسوف القمر وتجمعوا في مساحات مفتوحة لحث الظل على ترك الشمس وشأنها. يعتقد الأمريكيون الأصليون أنه خلال الكسوف تفقد الشمس بعضاً من قوتها ومساعدت إحيائها تكمن عن طريق إرسال سهام مشتعلة في اتجاه الشمس. أشعل اليابانيون النيران أو عرضوا جواهر لامعة للتعويض عن بهتان الشمس أو القمر. يعتقد شعب الماوري**** من ولاية آسام، أن خسوف القمر هو تنبؤ أو اعلان عن انتصارهم على أعدائهم في المستقبل. قلب الأسكيمو أوانيهم رأسًا على عقب لمنع التأثيرات السيئة الناجمة من كسوف الشموس وخسوف القمر من الوقوع في طبخهم. الكولام، قبيلة صغيرة في وسط الهند لديها أسطورة مثيرة للاهتمام حول الكسوف. إنهم يعتبرون كسوف الشمس هو الوقت الذي يأتي فيه جامعو الديون لتحصيل الرسوم من الشمس. في الصين والهند وبيرو وجنوب شرق آسيا، كانت هناك معتقدات بأن التنانين أو الشياطين تهاجم الشمس أثناء الكسوف.
حاول الصينيون وشعب الإنكا إخافة هذه الوحوش بعيدًا، لكن الهنود قاموا بمحاولة مختلفة عن طريق غمر أنفسهم في الماء.أداء هذه الطقوس الدينية لمساعدة الشمس في مقاومة الشيطان. حتى اليوم، في بعض البلدان، لا يزال من المعتاد ضرب الأواني أو الترانيم أو إطلاق النار في الهواء عند حدوث الكسوف.
- الصين القديمة:
في الصين القديمة، كان يُنظر إلى كسوف الشمس وخسوف القمر على أنه نذر ينبئ بمستقبل الإمبراطور. لذلك كان من المهم التنبؤ بالكسوف. اعتقد الصينيون القدماء أن كسوف الشمس يحدث عندما يلتهم تنين سماوي الشمس. كما اعتقدوا أن التنين نفسه يهاجم القمر أثناء خسوف القمر. كان تقليدًا في الصين القديمة لقرع الطبول والأواني وإصدار ضوضاء عالية أثناء الكسوف لإخافة هذا
التنين بعيدًا. وفي الآونة الأخيرة، في القرن التاسع عشر، أطلقت البحرية الصينية مدافعها خلال خسوف القمر لإخافة التنين الذي كان يأكل القمر.
يمكن تأريخ التقاليد الصينية للملاحظات الفلكية إلى عام 2650 قبل الميلاد وكان لديهم مراصد متطورة بحلول عام 2300 قبل الميلاد. كانت مراقبة الكسوف الكلي للشمس عنصرًا رئيسيًا في التنبؤ بمستقبل الصحة والنجاحات للإمبراطور. عمل المنجمون بجد للتنبؤ بالكسوف. في حالة واحدة مسجلة في السجلات الصينية القديمة، أن الإمبراطور الصيني “تشونغ كانغ” قطع رأس عالمين فلكين،”هو” و”هيسي”، الذين فشلوا في التنبؤ بالكسوف في عام 2300 قبل الميلاد.
تبدأ السجلات الصينية المنهجية للكسوف حوالي 720 قبل الميلاد. وصف عالم الفلك “شي شين” من القرن الرابع قبل الميلاد التنبؤ بالكسوف باستخدام المواقع النسبية للقمر والشمس. كانت نظرية “التأثير المشع” (أي أن ضوء القمر هو ضوء منعكس من الشمس) موجودة في الفكر الصيني منذ حوالي القرن السادس قبل الميلاد.
يأتي فهمنا لمعرفة الحضارة المصرية القديمة بعلم الفلك من رسومات المقابر ونقوش المعابد وبعض وثائق البردي. أقدم مثال على المِزْوَلَة***** هو مصري منذ حوالي 1500 قبل الميلاد. سقف مقبرة سننموت به خريطة فلكية تم رسمها حوالي عام 1460 قبل الميلاد، تبين الخريطة الإثنى عشر شهرا للسنة وتحتوي ايضاً على أجرام سماوية مثل نجم سيريوس (الشِّعرَى اليَمَانِيَّة)
وكوكبة الجبار وأربعة كواكب من مجموعتنا الشمسية مثل عطارد، الزهرة، المشتري، وزحل.
يرجع تاريخ أقدم نسخة معروفة من التقويم إلى عام 1220 قبل الميلاد في زمن رمسيس الثاني. في عام 1100 قبل الميلاد، كتب أمنحتب الثالث “كتالوج الكون” الذي يحدد الأبراج الرئيسية المعروفة. توجد بردية في “متحف مصر للبرديات” بمدينة فيينا تم نسخها في أواخر القرن الثاني الميلادي، تصف خسوف القمر وكسوف الشمس ونذيرهما.
قام عالم الفلك المصري ابن يونس، الذي يُعتبر أحد أعظم علماء الفلك في عصره ، بملاحظات تفصيلية لخسوف القمر وكسوف الشمس في القاهرة.
- الحضارة البابلية و السومرية:
ازدهر علم الفلك في بلاد الرافدين الواقعة في السهل بين نهري دجلة والفرات، حوالي الألفية الرابعة قبل الميلاد. لاحظ علماء الفلك البابليون حركات الشمس والقمر والكواكب بعناية واحتفظوا بسجلات للأحداث السماوية. يُنسب إليهم أيضًا مساهمات رائعة في علم الفلك القديم. تم تسجيل ثلاثة كسوفات شمسية مهمة في بلاد ما بين النهرين. الأول كان الكسوف الذي حدث في 3 مايو 1375 قبل الميلاد، والذي كان مرئيًا في مدينة “أوغاريت” (الواقعة في الجمهورية العربية السورية الحالية). تم العثور على كسوف كلي آخر “تحول النهار إلى ليل” وهو كسوف 31 يوليو 1036 قبل الميلاد. والثالث هو سجل آشوري لكسوف الشمس في 15 يونيو 763 قبل الميلاد الذي لوحظ في مدينة “نينيفا”.
يرجع الفضل إلى علماء الفلك البابليين في اكتشاف فترة 223 شهرًا لخسوف القمر، على الأرجح باستخدام سجلات خسوف القمر.
“إذا كانت الشمس عند شروقها مثل الهلال وترتدي تاجًا كالقمر…سيأخذ الملك أرض عدوه…يترك الشر الأرض، وستختبر (الأرض) الخير.” يشير هذا النص الذي كتبه “راسيل” وهو كاتب بابلي للملك إلى كسوف للشمس حدث في 27 مايو 669 قبل الميلاد.
- اليونان القديمة:
كما احتفظ علماء الفلك اليونانيون القدماء بسجلات عن الكسوف. قام أرسطرخس (وهو عالم فلك ورياضيات يوناني كبير، من مدرسة الإسكندرية القديمة، ولد في ساموس باليونان) حوالي 250-320 قبل الميلاد بعمل تقدير تقريبي لقطر القمر واقترح أول نموذج مركز شمسي معروف للكون. في هذا النموذج، تقع الشمس، وليس الأرض، في مركز الكون.
قام هيبارخوس 190-120 قبل الميلاد بتجميع أول كاتلوج للنجوم. كان لدى علماء الفلك اليونانيين القدماء أيضًا معرفة كبيرة بالكسوف.
يشير جظء من قصيدة مفقودة للشاعر اليوناني أرشيلوخوس (حوالي 680-645 قبل الميلاد) إلى ملاحظة كسوف كلي للشمس.
“لا يوجد شيء يفوق الأمل…لا شيء يمكن أن يقسم مستحيلًا …لا شيء رائع…لأن زيوس…والد الأولمبيين…قضى الليل من منتصف النهار…مخفيًا ضوء الشمس الساطعة…ووقع الخوف الشديد على الرجال.”
قبل عام 450 قبل الميلاد، أدرك ميتون أن فترة واحدة من 235 شهرًا قمريًا ( 19 عامًا) ستؤدي إلى عودة التقويم القمري إلى التزامن مع التقويم الموسمي الشمسي. في هذا الوقت، سيتم تسجيل نفس المرحلة القمرية في نفس الوقت من السنة التقويمية الشمسية. توفر هذه الفترة أيضًا دليلًا تقريبيًا لتاريخ تكرار خسوف القمر في نفس الموقع الجغرافي.
كتب بطليموس (87-150م) عن الكسوف في كتاب المجسطي (وهو رسالة بحثية في الفلك والرياضيات ألفه العالم الإغريقي بطليموس عام 148 م في الإسكندرية. يعتقد أنه أقدم كتاب معروف في الفلك). تظهر كتاباته أنه درس مدار القمر بعناية وكان لديه مخطط معقد للتنبؤ بكل من كسوف الشمس وخسوف القمر. أشار بطليموس إلى أن الشمس يجب أن تكون في حدود 20 درجة و 41
قدمًا من نقطة العقدة، وأن ما يصل إلى خسوفين للشمس يمكن أن يحدث في غضون سبعة أشهر في نفس الجزء من العالم.
بينما سيطر علماء الفلك الصينيون والبابليون واليونانيون على معرفة علم الفلك في العالم القديم، في منتصف الطريق عبر الكرة الأرضية، كان مراقبو المايا يعملون على التقويمات ويسجلون الملاحظات السماوية. تحتوي “مخطوطة دريسدن” على عدة جداول يعتقد أنها جداول خسوف القمر.
كما هو الحال في الحضارات السابقة في أجزاء أخرى من العالم، استخدم المايا سجلات خسوف القمر التاريخي لحساب عدد المرات التي حدثت خلال فترة 405 شهراً. لا يوجد ذكر للكسوف الكلي للشمس. بعد الغزاة الأسبان، جاء المبشرون في القرن السابع عشر الذين دمروا عمداً جميع السجلات المكتوبة الأصلية. لم ينجُ سوى القليل ليخبرنا ما إذا كان شعب المايا أو الإنكا أو الأزتيك قد حققوا فهماً أعمق لكسوف الشمس وتوقعاتهم.
- الهند القديمة:
يمكن العثور على بعض الأساطير الأكثر تفصيلاً فيما يتعلق بالكسوف في الهند. في الهيكل الديني الهندي القديم، يوجد الكون على أساس اتفاق ثلاثي بين الآلهة والأجداد والبشر. يجب على كل منهما أن يقوم بإرضاء الآخر عن طريق تقديم الهدايا وما إلى ذلك لأنه في وقت الكسوف يكون إله الشمس في مأزق، يجب على البشر التبرع بسخاء لمساعدة الآلهة على محاربة التهديد من “الأسورا”، وهو كائن شرير في الديانات الهندية ويشتهر بأنه عدو للآلهة. تستمر هذه الممارسة حتى اليوم. لذا فإن الكسوف هو وقت التبرعات ويتم تسجيل هذه التبرعات.
وفقًا للقصة الأكثر شيوعًا في النصوص الهندوسية، ترغب الآلهة وأسورا في تحقيق الخلود من خلال تناول الرحيق الموجود تحت سطح البحر. من أجل استخراج رحيق الخلود، تتعاون الآلهة مع أسورا ويضربون البحر. ومع ذلك، عندما يخرج الرحيق في النهاية، ترسل الآلهة امرأة جميلة “موهيني” لتشتيت انتباه أسورا. نجحت خطة الآلهة إلى حد كبير لكن ملك النيازك الإله “راهو” يدرك ما يجري. لذلك يأخذ شكل أحد الآلهة ويحاول الحصول على بعض الرحيق. عندما حاول “راهو” استهلاك رحيق الخلود، يدرك القمر والشمس ما يجري، ويحاولان منعه بقطع رأسه. يغضب “راهو” على القمر و الشمس ويحاول إلى الأبد الانتقام منهم، ومن ثم ينشأ الكسوف.
- 💡معلومة لا ضرر منها:
شوهد كسوف حلقي للشمس في 27 يناير عام 632 م في المدينة المنورة خلال حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
__________________________________________________________________________
* شعب باتاماليبا أو التماري، هم أشخاص يتحدثون لغة الأوتي ڤولتا في مقاطعة أتاكورا في بنين والمناطق المجاورة في توغو. يشتهرون بمنازلهم المحصنة المكونة من طابقين، والمعروفة باسم “تارا سومبا”، حيث يضم الطابق الأرضي الماشية في الليل، وتستخدم التجاويف الداخلية للطهي، ويحتوي الطابق العلوي على فناء على السطح يتم استخدامه لتجفيف الحبوب وكذلك تحتوي على أماكن للنوم ومخازن للحبوب. تطورت هذه عن طريق إضافة سقف مغلق إلى مجموعات الأكواخ ، وربطها بجدار متصل نموذجي للمناطق الناطقة بلغة غور في غرب إفريقيا.
**توغو، هو بلد في غرب أفريقيا تحده غانا إلى الغرب وبنين من الشرق وبوركينا فاسو من الشمال. يمتد جنوبًا إلى خليج غينيا، حيث تقع العاصمة لومي. بنين، هي دولة تقع في غرب أفريقيا. تحدها من الغرب توغو ومن الشرق نيجيريا ومن الشمال فبوركينا فاسو والنيجر. أما من الجنوب فتطل على خليج بنين، حيث تقع غالبية السكان.
***الأرمن، هي أمة ومجموعة عرقية أصليَّة ومقيمة في المرتفعات الأرمنية. تتراوح أعداد الأرمن في العالم بين ستة إلى ثمانية ملايين نسمة حول العالم، وهم شعب ذات تراث ثقافي قديم.
****الماوري، هم السكان الأصليون لنيوزيلندا وجزر كوك.
***** المِزْوَلَة، هي ساعة شمسية وأداة توقيت نهاري، تتكون من عدة نقاط وخطوط، رسمت على صفيحة عريضة، وفي وسطها عصا مستقيمة أفقية يتحدد الوقت من طول ظلها الناتج عن وقوع أشعة الشمس عليها، حيث تترك ظلا متحركا على النقاط والخطوط، وهي من أقدم آلات قياس الوقت لأن تاريخها يرجع إلى عام 3500 قبل الميلاد. استخدمها المسلمون قديمًا في المساجد لتحديد أوقات الصلوات.