المادة المظلمة | The Dark Matter
من يصدق أن هذا الكون على اتساعه إلا أننا لا نرى منه سوى ما يقارب %5 فقط!
فهل الباقي فراغ؟ وممَّ يتشكل هذا الباقي الكبير؟
الإجابة تكمن في المادة المظلمة أو The Dark Matter.
فما هي المادة المظلمة؟ كيف عرفنا بوجودها؟ وما هي الطاقة المظلمة؟
Image credit: National geographic
المادة المظلمة هي مادة غامضة غير مرئية لا يُعرف تكوينها على وجه الدقة، وتُشكِّل ما يقارب 27 % من تركيبة الكون، وتُشكّل الطاقة المظلمة حوالي 68% من الكون وتعاكس عمل قوة الجاذبية. والـ5% فقط هي الباقية ومانعرفه ورأيناه يقينًا في هذا الكون، وعلى غرار الثقوب السوداء والتي لانستطيع تصوير ما بداخلها بسبب انحناء الضوء وعدم إفلاته؛ فإن المادة المظلمة تعتبر مظلمة لذات السبب ربما؛ حيث لايمكن رصدها بكافة الأساليب المتاحة بما فيها امتصاص الإلشعاعات الضوئية والكهرومغناطيسية؛ لأنها لاتمتص ولاتعكس الضوء، كما أنها تنتشر في الكون فرضيًا على شكل شِباكٍ وخيوط.
إذا كانت المادة غير المرئية مظلمة فهي كذلك ليست كالسحب الكونية التي تعتبر سوداء والتي قمنا بالتعرف عليها من امتصاصها للضوء والإشعاع، تتكون المادة العادية من ذرات ومستوى باريوني تحت ذري من بروتونات وإلكترونات ونيوترونات وكذالك المواد المضادة Antimatter (وهي عبارة عن جسيمات تحت ذرية تشابه الإلكترونات والبروتونات ولكن بشحنات مغايرة) والتي تُصدِر موجات أشعة جاما عند مواجهتها للمادة العادية و يلاشي كل منهما الآخر، لكن المادة المظلمة التي تعتبر من هذه ولا من تلك بل لاتتفاعل مع هذه المواد من الأساس.
Image: sakkmesterke/Shutterstock
إذن كيف عرفنا بوجودها؟
لكل شيءٍ غير مرئي أثر، وأثر المادة المظلمة يظهر من خلال جاذبيتها على محيطها من المادة العادية من مجرات وتجمعات مجرية، كيف ذلك؟ بحسب الفيزياء القياسية؛ فإن النجوم في حواف المجرات الحلزونية الدوارة من المفترض أن تكون أبطأ عن نظيراتها قرب مركز المجرة، لكن ملاحظات العلماء أظهرت أن تلك النجوم تدور بسرعة تساوي مثيلاتها قرب المركز وربما تزيد أو تقل قليلاً عنها، لكن ذلك ليس له علاقة بمكانها من المركز ويتم تفسير ذلك بسهولة إذا افترضنا تواجد تأثير جاذبية من جسم أو كتلة غير مرئية يحاوطان المجرة من الخارج.
حين ورود صور من الكون العميق يلاحظ العلماء تواجد حلقات غريبة وأقواس من الضوء ويمكن تفسير ذلك بوجود سحب عمالقة من المادة المظلمة تقوم بتشويه الضوء وتعمل على انحنائه فيما يُعرف بظاهرة عدسة الجاذبية أو Gravitational Lensing، ويفترض علماء آخرون تفسيرًا آخر بتعديل نظرتنا الأساسية لنظريات الجاذبية وإثر ذلك يكون الكون محكومًا بأشكال جاذبية متعددة وأن الجاذبية التي تحكم المجرات تختلف عن الجاذبية التي نعلمها بمفهومنا.
كذلك يعتقد العلماء أن كتلة النجوم والمواد المرئية داخل المجرة لن تفسر وحدها بقاء النجوم في دورانها حول مركز المجرة ما لم يكن هناك تواجد للمادة المظلمة وذلك ما أكده عالِما الفلك “فيرا روبين” و”كينت فورد” بملاحظاتهما على ظاهرة مماثلة؛ حيث لاحظا أن كتلة النجوم داخل مجرة ما تُشكِّل 10 % فقط من الكتلة المطلوبة لبقائها في مداراتها، كان هذا تأكيدًا لما أشار إليه عالم الفلك السويسري الأمريكي “فريتز زفيكي” في عام 1933م ومنحه اسم الكتلة المفقودة أو The Missing Mass، والتي بقيت محل تساؤل لعقود.
هل الكون ثابت أم متغير؟ ولو كان متغيرًا فهل بالزيادة والإتساع؟ أم بالإنكماش والنُقصان؟
في البداية افترض العلماء أن قوة الجاذبية ستؤدي إلى تباطؤ توسع الكون بمرور الوقت، لكن مع تسعينات القرن الماضي تفاجأ العلماء وصُدِمُوا حينما حاول فريقان مُستقلانِ من العلماء قياس معدل التسارع وحينها اكتشفوا أن عجلة التسارع تزداد في الواقع، وفي الوقت الحالي أرجح العلماء هذا التمدد المتسارع للكون إلى نوع من القوة الطاردة والتي تشكلت بفعل التذبذب الكمي في الفضاء الفارغ، وقد اتضح أن هذه القوة تزداد في قوتها مع تمدد الكون، ولعدم إيجادهم اسمًا أفضل لها فقد اختار العلماء تسمية هذه القوة بالقوة المظلمة أو The Dark Energy.
أشار كثير من العلماء أيضًا إلى أن الخصائص المعروفة للطاقة المظلمة تتوافق مع الثابت الكوني، وهو أمر رياضي أضافه العالِم الشهير “ألبرت آينشتاين” إلى نظريته في النسبية العامة لجعل معادلته تتناسب مع مفهوم (الكون الثابت)؛ فوفق “آينشتاين” سيكون الثابت هو قوة دافعة تتصدى للجاذبية وتمنع الكون من الإنهيار على نفسه، لكن تجاهل “آينشتاين” الفكرة لاحقًا عندما كشفت الملاحظات الفلكية أن الكون يتوسع، واصفًا الثابت الكوني بأنه كان الخطأ الفادح والناقص في معادلته.
Image: Lucy Reading-Ikkanda/Simons Foundation
هل نعرف شيًئا عن طبيعة هذه المواد؟
يشير المعدل الذي تلتحم وتتجمع فيه المجرات (من تذبذبات الكثافة في بدايات الكون) إلى أن المادة المظلمة غير البنائية باردة وغير نسبية؛ ما يعني أن العمود الفقري للمجرات وعناقيدها مشكلة من جسيمات ثقيلة بطيئة الحركة، ويشير غياب الضوء على أن هذه الجسيمات متعادلة كهرومغناطيسيًا هذه الخصائص الإسم الشائع التالي لهذه الجسيمات وهو الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل أو Weakly Interacting Massive Particles (WIMPs).
إن الطبيعة الدقيقة لهذه الجسيمات غير معروفة حاليًا، ولايتنبأ بها النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، ومع ذلك فإنّ عددًا من الإمتدادات المحتملة للنموذج القياسي مثل “نظريات التناظر الفائق” تتنبأ بالجسيمات الأولية الافتراضية مثل الألكسيونات أو المحايدات Neutralinos التي قد تكون هي WIMPs غير المكتشفة.
يحاول العُلماء جاهدين تحديد وقياس هذه الجسيمات بمشاهدة تأثيرها في الكواشف المخبرية أو بمراقبة تدمرها باصطدامها ببعضها البعض كما أن هناك توقعات بأن وجودها وكتلتها يمكن استنتاجهما من التجارب في مسرعات الجسيمات الجديدة مثل “مُصادم هادرون الكبير”.
من المتوقع أيضًا أن يساهم “تلسكوب جيمس ويب الفضائي” والذي تم إطلاقه بعد 30 عامًا من التطوير في 25 ديسمبر 2021م في البحث عن هذه المادة المخادعة؛ نظرًا لأن عيونه تحت الحمراء قادرة على الرؤية حتى بداية الزمن، ورغم ذلك فإن التلسكوب لن يكون قادرًا على رؤية المادة المظلمة مباشرة ولكن من خلال مراقبة تطور المجرات منذ المراحل الأولى للكون، ومن المتوقع أن يقدم كذلك رؤى ثاقبة للكون لم تكن مُمكِنة من قبل.
كذلك ستطلق وكالة الفضاء الأوروبية ESA هذا العام “تلسكوب إيوكليد” والذي سيقوم بدراسة ظواهر تتعلق بالطاقة والمادة المظلمتين، ويعد من أكثر الإطلاقات الفضائية المنتظرة في هذا العام.
ختامًا، هل سنتمكن في النهاية من معرفة ماهية المادة والطاقة المظلمتين؟ أم ستظلّان في علم الغيب؟
وبعد كل ما نعرفه فما أوتينا من العلم إلا قليلاً وفوق كل ذي عِلمٍ عليم.
انتهى
كُتب بيد: السيد محمد السيد.
مراجعة وتدقيق: عبدالله (نائب إدارة آستروفايل)
المصادر:
– موسوعة بريتانيكا: https://www.britannica.com/science/dark-matter
– وكالة ناسا: https://science.nasa.gov/astrophysics/focus-areas/what-is-dark-energy
– ناشيونال جيوغرافيك: https://www.nationalgeographic.com/science/article/dark-matter
– موقع سبيس: https://www.space.com/20930-dark-matter.html